يشهد العالم سباقاً محموماً على المعادن النادرة، تلك العناصر التي باتت تمثل العمود الفقري للتكنولوجيا الحديثة؛ من الهواتف الذكية والمركبات الكهربائية إلى الصناعات الدفاعية الأكثر تعقيداً، والتي تتصاعد أهميتها مع اتساع دائرة التحولات الرقمية والطاقوية، لتتحول من مجرد موارد طبيعية إلى ورقة استراتيجية تدار بها موازين القوى.
تتزايد المخاوف في العواصم الغربية من هشاشة سلاسل التوريد المرتبطة بهذه المعادن، وسط إدراك متنامٍ بأن تأمين البدائل يشكل تحدياً جيواستراتيجياً يضع الأمن الصناعي في قلب المعادلة. وتبذل الولايات المتحدة وأوروبا واليابان جهوداً محمومة لبناء مسارات جديدة للإمداد، في محاولة لتقليص الاعتماد على مصدر واحد.
يتعمق الجدل في الأوساط الاقتصادية والسياسية حول مدى قدرة الغرب على التحرر من هذه الهيمنة الصينية، في وقت تتعمد فيه بكين إدارة صادراتها بعناية فائقة، مستخدمة مزيجاً من الأسعار المنخفضة والضوابط الصارمة.
بكين تتصدر المشهد
يشير تقرير لصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية إلى أن:
- الولايات المتحدة وأوروبا واليابان يتسابقون لتطوير سلسلة توريد غير صينية للمعادن والمغناطيسات الضرورية لتقنيات متنوعة؛ من الهواتف الذكية إلى المركبات الكهربائية والطائرات المقاتلة.
- في الوقت الحالي، تعتمد الصناعات الغربية بشكل شبه كامل على الصين في توفير المعادن النادرة.
- لكن المحللين والمطلعين على بواطن الصناعة يتفقون عموماً يرون أن فكّ قبضة الصين سيكون صعباً.
- لقد رسّخت بكين مكانتها كأقلّ مُنتِج تكلفةً في كل مرحلة من مراحل سلسلة قيمة المعادن النادرة، بفضل عقود من التخطيط الحكومي وعمليات الاستحواذ الاستراتيجية.
ويضيف التقرير: أسهمت سيطرة الصين على المعادن النادرة في تشكيل مفاوضات التجارة العالمية؛ فقد استخدمت ضوابط التصدير لإجبار واشنطن على تقديم تنازلات، في حين اتهمت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بكين باتباع "نمط من الهيمنة والتبعية والابتزاز" لإفلاس منافسيها في هذا المجال.
استؤنف تدفق المعادن النادرة منذ أن اشتكى مسؤولون من الولايات المتحدة وأوروبا من نقصها، لكن بيانات التجارة والمسوحات تظهر أن بكين تدير الصادرات بشكل صارم لمنع التخزين في الخارج.
رغم سيطرتها على المعادن النادرة - بنسبة 70 بالمئة من التعدين، و90 بالمئة من الفصل والمعالجة، و93 بالمئة من تصنيع المغناطيس - حافظت بكين عموماً على أسعار منخفضة بما يكفي لتثبيط المنافسين الجدد. وهذا يُمثل دروساً لمجموعة من سلاسل التوريد الاستراتيجية، ويُبرز مدى صعوبة المنافسة على الغرب.
وقالت الخبيرة في مجال المعادن في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، جريسلين باسكاران: "إنهم لا يلجأون إلى الحد من الإنتاج لرفع الأسعار، بل يستخدمون هذه الهيمنة على السوق للاحتفاظ بالنفوذ ثم تحويل هذه الموارد إلى أسلحة"، مضيفة أن "الأمر لا يتعلق فقط بالمعادن النادرة - بل هي قصة يتم تكرارها عبر السلع الأساسية."
ويذكر تقرير لـ "ماركت ووتش" تحت عنوان (الصين تحتجز العناصر الأرضية النادرة، والولايات المتحدة ينفد منها الوقت لوقف ذلك)، أن اعتماد واشنطن على بكين يعرض سلاسل التوريد التصنيعية للعديد من المنتجات العسكرية والمنتجات التكنولوجية العالية للخطر".
- تعد الصين أكبر مورد ومعالج للعناصر الأرضية النادرة في العالم - والتي أصبحت مجالًا رئيسياً للخلاف في الاحتكاك التجاري بين الولايات المتحدة والصين.
- في أبريل، ردّت الصين على الرسوم الجمركية الأميركية بفرض قيود على تصدير سبعة عناصر أرضية نادرة، بالإضافة إلى بعض مغناطيسات هذه العناصر.
- نظراً لضعف قدرة الولايات المتحدة المحلية على معالجة وتكرير هذه العناصر وتحويلها إلى مكونات للاستخدام النهائي، وندرة البدائل المتاحة لتكرير هذه العناصر خارج الصين، فقد هددت هذه القيود بتأخير الإنتاج وتوقف المصانع في مصانع السيارات الأميركية .
هيمنة صينية
استاذة الاقتصاد والطاقة بالقاهرة، الدكتورة وفاء علي، تقول لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
- لا شك أن مآلات المشهد تُشي بأن الصين ما زالت تمسك بزمام المبادرة في ملف المعادن النادرة، ولا يمكن طمس هذه الحقيقة الجوهرية.
- ورقة المعادن النادرة ومعالجتها أصبحت في يد الصين، التي تهيمن على نحو 70 بالمئة من العناصر الأرضية النادرة عالمياً. كما أنها تتحكم في أكثر من 90 بالمئة من عمليات التكرير لتلك العناصر التي تحتاجها صناعة السيارات العالمية برمّتها في عصر يبرز ملمحه الأول عبر "الهيمنة المعدنية النادرة".
- تحاول الولايات المتحدة الأميركية أن تتصدر المشهد في هذا الملف، غير أن التحدي لا يكمن في توافر المعادن فحسب، بل في كيفية استخراجها ومعالجتها وتصنيعها.
- هنا تتفوق الصين التي قطعت شوطاً بعيداً في هذا المجال بخطوات تكتيكية مدروسة، واستثمرت استراتيجياً في منغوليا لاستخراج المعادن ومعالجتها بأعلى كفاءة. وحتى إذا ما أقدمت كندا أو الولايات المتحدة على عمليات استخراج واسعة، فإن التكلفة ستكون باهظة مقارنة بالنموذج الصيني.
وتضيف: وعليه، لا تتردد الصين في إشهار هذا السلاح في وجه المناورات الترامبية (نسبة إلى سياسات الرئيس ترامب). فقد ارتفعت صادراتها، بما يشمل المغناطيسيات، في يوليو الماضي إلى 75 بالمئة (على أساس شهري)، ما جعلها نقطة محورية في المحادثات الأميركية الصينية.
وتدرك بكين تماماً أهميتها كخزان عالمي للمعادن النادرة، وهو ما يمنحها مزيداً من القوة أمام سياسات الرسوم الجمركية الأميركية. ومع فرض ضوابط على التصدير وربطها بنظام تراخيص، تتعزز مكانة الصين كبطلة المشهد في معادلة الهيمنة التكنولوجية.
ويُعد هذا المشهد رسالة صريحة لواشنطن بأن بكين حاضرة بقوة في هذا الملف الاستراتيجي، وأنها ستظل متصدّرة له، وقادرة على إلحاق أضرار مباشرة بالصناعات الدفاعية الأميركية التي تعتمد بشكل حيوي على المعادن النادرة.
سباق المعادن
خبير اقتصاديات الطاقة من لندن، نهاد إسماعيل، يقول لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
- على المدى المنظور، أي خلال عقد من الزمان، ستبقى الصين في موقع متقدّم وقيادي عالمياً في مجال المعادن النادرة، سواء من حيث الاستخراج من الأرض أو التكرير والمعالجة.
- من المتوقع أن يرتفع الطلب العالمي على العناصر الحرجة والمغناطيسيات بنسبة تتراوح بين 50 و60 بالمئة بحلول عام 2040.
- الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في أمسّ الحاجة إلى هذه العناصر، نظراً لأهميتها في صناعة السيارات، وأجهزة الحاسوب والهواتف الذكية، وتوربينات الرياح، ومصادر الطاقة المتجددة، فضلاً عن دورها الحيوي في تطوير الاقتصاد الرقمي وتطبيقات دفاعية متقدمة.
ويضيف: الصين تدرك هذه الأهمية، وفي ظل التوترات التجارية الراهنة، بدأت تفرض قيوداً على تصدير العناصر النادرة، كرد فعل على الرسوم الجمركية التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أبريل الماضي.
وقد اتهمت أوروبا بكين باستخدام هذه القيود كسلاح تجاري، بينما تسعى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي جاهدين إلى تسريع جهود تنويع مصادر الإمداد وتقليل الاعتماد على الصين. ويعتقد خبراء "معهد أوكسفورد لدراسات الطاقة" بأن القيود الصينية على تصدير المعادن النادرة تُعدّ أكثر تأثيرًا بكثير من سلاح الرسوم الجمركية.
ويلفت إسماعيل إلى أنه مؤخراً، فرضت الصين قيوداً مشددة على صادرات الغاليوم والجرمانيوم والأنتيمون، وهي جميعها عناصر حرجة وحيوية في الصناعات عالية التقنية.
ويشير إلى أنه "لا يبدو أن هناك حلاً سريعاً وسحرياً أمام الدول الغربية سوى التعامل مع الصين دبلوماسياً، وتجنّب الانجرار إلى حرب تجارية خاسرة. فيما يبقى المستقبل مفتوحاً على احتمالات عديدة بشأن التجارة الدولية والتطور التكنولوجي خلال العقود المقبلة".