على مدى عقود، احتفظت سندات الخزانة الأميركية بمكانتها كأكثر الأصول المالية أماناً وجاذبية في النظام المالي العالمي، إذ اعتمد عليها المستثمرون والحكومات والبنوك المركزية كمرتكز رئيسي لحفظ القيمة وضمان الاستقرار.
غير أن التحولات السياسية والاقتصادية المتسارعة في السنوات الأخيرة، خصوصاً في الولايات المتحدة، تدفع العالم إلى إعادة النظر في هذا المشهد التقليدي.
وسط هذه التحولات، تبرز أوروبا كلاعب يسعى إلى تعزيز مكانته في النظام المالي الدولي عبر بناء أدوات مالية قادرة على منافسة النفوذ الأميركي، بما يضمن لها استقلالية استراتيجية أكبر وقدرة أعلى على مواجهة الأزمات.
ويفتح هذا التوجه الباب أمام نقاش واسع حول مستقبل أسواق الديون العالمية، واحتمالات أن يشهد النظام المالي تغيراً جوهرياً إذا ما تمكنت أوروبا من طرح بدائل حقيقية ذات جاذبية للمستثمرين الباحثين عن ملاذات آمنة ومستقرة.
السندات الأميركية
يشير تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" إلى أنه على مدى عقود من الزمن، كانت سندات الخزانة الأميركية على قمة النظام المالي العالمي؛ إذ كان المستثمرون والحكومات والبنوك المركزية يستحوذون بشكل مطرد على الديون المقومة بالدولار على أمل أن الحكومة الأميركية لن تتخلف عن سداد ديونها أبداً.
السياسات الاقتصادية الفوضوية للرئيس ترامب، وتهديد استقلالية الاحتياطي الفيدرالي، تثير تساؤلات حول استقرار الأصول الأميركية. بالتالي فإن المستثمرين الراغبين في التخلي عن سندات الخزانة والدولار يواجهون خيارات بديلة واعدة.
وحتى مع تصاعد حالة عدم اليقين مؤخراً بسبب سياسات ترامب، لا تتمتع سوى دول قليلة باستقرار اقتصادي وسياسي وقانوني يُضاهي الولايات المتحدة.
ويضيف التقرير:
- الاتحاد الأوروبي، الذي يُقارب أميركا حجماً وثروةً ككتلة، يعاني من سوق مالية مجزأة، حيث تبيع كل دولة من دوله السبع والعشرين سنداتها على حدة.
- والآن هناك "سندات اليورو"، وهي نوع جديد من الأصول المالية الأوروبية اقترحه أوليفييه بلانشارد، كبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي والذي يعمل الآن أستاذاً في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وأنخيل أوبيدي، رئيس البحوث الاقتصادية للدخل الثابت العالمي والاقتصاد الكلي في Citadel.
- طُرِحَت فكرة إصدار الاتحاد الأوروبي ديونًا بشكل أو بآخر لأكثر من عقد، لكنها واجهت مقاومة شديدة، لا سيما من الدول التي تفرض قيودًا صارمة على ديونها، مثل ألمانيا.
- تم التغلب على بعض هذه العقبات في العام 2020 عندما أعلن الاتحاد عن خطة لإصدار ديون مشتركة تصل إلى 750 مليار يورو للمساعدة في تمويل التعافي من جائحة كوفيد. إلا أن هذه الخطة كانت قصيرة الأجل.
يتمثل اقتراح بلانشارد وأوبيدي في إصدار ديون منتظمة، وبناء مخزون من الأصول السائلة، وتعزيز البنية التحتية المالية الأوروبية. ويحظى هذا الاقتراح بتأييد واسع، إذ ناقش كبير الاقتصاديين في البنك المركزي الأوروبي مزاياه مؤخراً.
ويشير التقرير إلى أن هناك حاجة ملحة لأوروبا لتحقيق استقلالها الاستراتيجي. ولتحقيق ذلك، تحتاج إلى قوة عسكرية ومالية. ولا يمكن امتلاك قوة مالية إلا بأصول سائلة وآمنة تُشكل ركيزة أساسية للقطاع المالي.
فرص أوروبية
يقول خبير أسواق المال، محمد سعيد، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن "بدائل سندات الخزانة الأميركية تظل دوماً محل نقاش واسع في أوساط المستثمرين، خصوصاً في الفترات التي تشهد اضطرابات في السياسة الاقتصادية الأميركية، وبينما يبحث المستثمرون عن أدوات توفر عائداً آمناً نسبياً وتحافظ على قيمة أموالهم".
ويوضح أن "أول وأوضح البدائل دائماً ما تكون السندات الحكومية للدول الكبرى، خصوصاً في أوروبا مثل ألمانيا وفرنسا وسويسرا.. غير أن السوق الأوروبية لم تصل بعد إلى نفس مستوى السيولة والموثوقية التي تتمتع بها السوق الأميركية، رغم تحركات الاتحاد الأوروبي الأخيرة نحو فكرة إصدار سندات ديون مشتركة أو ما يُعرف بـاليوروبوندز".
ويضيف:
- "إذا نجحت أوروبا في تنفيذ هذا المشروع بشكل فعّال، وقدّمت أداة دين بحجم وسعر وسيولة مقاربة لسندات الخزانة الأميركية، فإن ذلك قد يمثل تحولاً كبيراً في موازين سوق الدين العالمية".
- “لكن الفكرة لا تزال محل جدل حاد، لا سيما من دول شمال أوروبا، التي تتحفظ على تحمل أعباء ديون دول أخرى تعاني من اختلالات مالية مزمنة، مقابل دعم قوي من دول الجنوب".
ويستطرد: "بعيدًا عن السندات الأوروبية، تبقى السندات اليابانية والبريطانية ضمن الخيارات المتاحة، وإن كانت تفتقر لحجم السيولة ومواجهة مخاطر سعر الصرف مقارنة بالدولار الأميركي".
وفي ما يتعلق بالبدائل الأخرى، يرى خبير أسواق المال أن "سندات الشركات المصنفة بدرجة استثمارية (Investment-grade corporate bonds) تمثل خياراً جذاباً لمن يسعى إلى عوائد أعلى نسبياً، مقابل تحمل قدر طفيف من المخاطر الإضافية، ما يوفر مزيجًا متوازنًا بين العائد والاستقرار".
كما يشير إلى وجود أدوات مالية مثل شهادات الإيداع وصناديق السندات العالمية التي تقدم تنويعاً جغرافياً وتخفف من المخاطر المرتبطة بالسوق الأميركية، إلى جانب بدائل غير تقليدية بدأت تبرز مؤخراً في ظل ارتفاع التضخم، مثل صناديق الاستثمار العقاري والأسهم ذات التوزيعات المنتظمة، لكنها تظل بطبيعتها أكثر عرضة للمخاطر مقارنة بسندات الخزانة.
وتنقل شبكة "بلومبيرغ" عن رئيس الأبحاث الاقتصادية لأسواق الدخل الثابت والاقتصاد الكلي في Citadel، قوله:
- تحتاج أوروبا إلى زيادة مبيعات السندات المشتركة من أجل إنشاء أصل آمن إقليمي يمكنه منافسة سندات الخزانة الأميركية.
- "الوقت الآن أو لن يكون أبداً إذا أراد الاتحاد الأوروبي المنافسة مع الصين والولايات المتحدة على النفوذ العالمي."
لتحقيق ذلك، يرى أوبيدي أن جزءاً من السندات الحكومية الأوروبية يجب تحويله إلى أدوات مالية مشتركة تابعة للاتحاد الأوروبي لجعل أسواق رأس المال في المنطقة أكثر جاذبية للمستثمرين.
ويضيف: "إذا أرادت أوروبا أن تكون قوية، وأن تمتلك استقلالية استراتيجية، فعليها تعزيز قوتها العسكرية والمالية. ولتعزيز تلك القوة، تحتاج إلى أصل آمن، وهو ما تفتقر إليه أوروبا."
ويشير إلى أن الاتحاد الأوروبي قد وسّع برنامج ديونه المشتركة منذ جائحة كورونا، لكن حجم هذه السندات، الذي يقل عن تريليون دولار، لا يزال جزءاً صغيراً مقارنةً بسوق سندات الخزانة الأميركية الذي يبلغ 29 تريليون دولار. وتظل سوق الديون السيادية الأوروبية مجزأة، حيث يأتي معظم الإصدار من دول فردية ذات تصنيفات ائتمانية وهياكل سوقية ومخاطر مختلفة.
وتساءل أوبيدي: "كيف يمكن لليورو أن يصبح عملة دولية حقيقية على غرار الدولار إذا لم يكن لديه أصل آمن يقدمه؟".
بدائل أساسية
من جانبه، يقول رئيس قسم الأسواق العالمية في شركة Cedra Markets ، جو يرق، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" قائلا:
- "البديل الرئيسي اليوم عن السندات الأميركية قد يتمثل في السندات الأوروبية المشتركة، خاصة مع استمرار أوروبا في تنفيذ سياسات تحفيزية اقتصادية واضحة".
- "هذه السندات تنافس حتى للسندات الألمانية التي لطالما اعتُبرت ملاذاً آمناً.. ونعلم مدى أهمية السوق الألمانية للمستثمرين العالميين في سوق الدخل الثابت".
- "مع ازدياد الإنفاق الأوروبي على القطاعات الدفاعية والبنى التحتية، بالإضافة إلى أنظمة مالية أكثر صرامة مقارنة بالولايات المتحدة، فإن هذا الانضباط يمنح المستثمرين ثقة، رغم أن العوائد قد تكون أقل من السندات الأميريية".
- "مع التوجه التوسعي الحالي في أوروبا، تزداد جاذبية هذه السندات كخيار بديل".
- كذلك، السندات البريطانية تُعد خياراً قائماً رغم الضبابية الاقتصادية.. أما السندات اليابانية، فرغم ثقل السوق اليابانية، إلا أن المخاوف من مستويات الدين المرتفعة وضغوط الحرب التجارية تجعلها أقل جذباً في الوقت الراهن.
ويشدد على أن بعض المستثمرين يسعون نحو العوائد المرتفعة في الأسواق الناشئة، رغم المخاطر، لما توفره من فرص جاذبة.