في صورة باتت تعكس هشاشة الاقتصاد البريطاني، يجد بلدٌ طالما اعتُبر من أعمدة الاستقرار المالي العالمي نفسه أمام أزمات متداخلة تهدد استقراره السياسي والاجتماعي.

3.9 تريليون دولار هو حجم الدين العام، و4.7 تريليون دولار ديون الشركات والأسر، أي ما مجموعه أكثر من 8.6 تريليون دولار من الالتزامات المالية الثقيلة. منذ عام 2015، تتراكم هذه الديون بمعدل 51 مليون دولار كل ساعة. أما على المستوى الاجتماعي، فقد فقد 250 ألف بريطاني وظائفهم منذ بداية هذا العام، فيما أغلقت 14,500 شركة أبوابها، بينما شهد العقد الأخير هجرة 138.5 ألف مليونير، وهو ما يمثل تراجعًا بنسبة 20بالمئة  في عدد الأثرياء الذين شكّلوا ركيزة أساسية لجاذبية لندن المالية.

سفينة بريطانيا تغرق وتهدد استقرار الحكومة

هذه الأرقام ليست مجرد بيانات جافة، بل هي مؤشرات على أزمة عميقة تتقاطع فيها الديون، ضعف الإنتاجية، هروب الاستثمارات، وتآكل الثقة.

وفي الوقت الذي تلامس فيه عوائد السندات البريطانية أعلى مستوياتها منذ 27 عامًا، اضطرت الحكومة إلى تأجيل الإعلان عن الميزانية العامة، فيما شرعت في حملة لتعيين خبراء اقتصاديين بحثًا عن خطة إنقاذ تمنع تكرار سيناريو 1976 حين لجأت لندن إلى صندوق النقد الدولي.

الجذور القديمة للأزمة: من تقشف 2008 إلى صدمة البريكست 

بحسب ما قاله ناصر زهير، رئيس وحدة الشؤون الدبلوماسية والاقتصادية في المنطقة الأوروبية، خلال حديثه الى برنامج "بزنس مع لبنى" على سكاي نيوز عربية فإن جذور هذه الأزمة لا تعود فقط إلى المستجدات الأخيرة، بل إلى قرارات وسياسات تراكمت منذ أكثر من عقد ونصف.

فبعد أزمة 2008 المالية، لجأت بريطانيا إلى سياسات تقشفية حادة هدفت إلى تقليص العجز وإعادة ضبط المالية العامة. إلا أن هذه السياسات جاءت على حساب النمو والاستثمار، مما أضعف البنية الإنتاجية وأرهق الطبقة الوسطى.

الديون تهدد بريطانيا .. وتضع اقتصادها أمام العاصفة

ثم جاء استفتاء 2016 على البريكست ليشكّل ما وصفه زهير بـ"الضربة القاضية". فقد كان التكامل البريطاني الأوروبي أكبر بكثير مما توقع الساسة الذين راهنوا على أن بريطانيا قادرة على استعادة قوتها الاستعمارية القديمة خارج الاتحاد الأوروبي.

غير أن الواقع كشف أن خروج لندن من الاتحاد أدّى إلى قطع سلاسل التوريد، تعطيل التجارة، وإرباك قطاعات الاستثمار والخدمات التي كانت تعتمد على السوق الأوروبية الموحدة.

الوعد الأميركي الذي لم يتحقق

أحد أهم المفاصل في القصة البريطانية هو الوعد الأميركي باتفاق تجاري تاريخي وغير مسبوق بعد البريكست. هذا الوعد الذي روّجت له الحكومات المحافظة على أنه سيكون التعويض الأكبر عن الخروج من الاتحاد الأوروبي لم يتحقق قط.

يوضح زهير أن بريطانيا وجدت نفسها في مأزق استراتيجي: فهي لا تستطيع العودة بسهولة إلى الاتحاد الأوروبي بعد أن دفعت فاتورة سياسية واقتصادية باهظة للبريكست، ولا هي قادرة على بناء تكامل اقتصادي حقيقي مع الولايات المتحدة. وهكذا وقعت في فراغ تجاري تركها من دون أي اتفاقيات كبرى، باستثناء بعض التفاهمات المحدودة.

زهير: البريكست كان الضربة القاضية لاقتصاد بريطانيا

غياب السياسة الاقتصادية الواضحة

تتجلى إحدى أبرز نقاط ضعف الاقتصاد البريطاني اليوم في غياب سياسة اقتصادية متكاملة. فعندما حاولت لندن الدخول في مفاوضات مع الصين لإبرام اتفاق طويل الأمد، لم تقدم الحوافز الكافية، بل كانت المواقف السياسية تطغى على الحسابات الاقتصادية. الأمر نفسه تكرر مع عدة دول آسيوية وإفريقية، حيث ظلّت بريطانيا تراهن على "الوعد الأميركي" الذي لم يأتِ.

وبينما فشلت في بناء اتفاقيات تجارية شاملة، تراكمت الأزمات: جائحة كورونا التي ضربت الاقتصاد العالمي وأرهقت بريطانيا أكثر من غيرها بسبب اعتمادها الكبير على قطاع الخدمات والسياحة، ثم حرب أوكرانيا التي رفعت تكاليف الطاقة ودفعت التضخم إلى مستويات غير مسبوقة، وصولاً إلى تداعيات البريكست التي لم يلتئم جرحها بعد.

هروب الثروات وتآكل الثقة

من بين الأرقام الصادمة التي تُظهر عمق الأزمة، يبرز نزيف الثروات البشرية والمالية. ففي عشر سنوات فقط، غادر بريطانيا أكثر من 138 ألف مليونير، أي ما يعادل خمس الأثرياء تقريبًا. هذه الهجرة لا تعكس فقط فقدان الثقة في الاستقرار الاقتصادي، بل تهدد أيضًا مكانة لندن كواحدة من أهم المراكز المالية في العالم.

هذا النزيف ترافق مع ارتفاع عوائد السندات إلى مستويات لم تُسجل منذ 27 عامًا، وهو ما يُترجم مخاوف المستثمرين من قدرة بريطانيا على إدارة دينها العام وضبط عجزها المالي.

صراع المحافظين والعمال: الاقتصاد رهينة السياسة

على المستوى السياسي، ألقى الصراع بين المحافظين والعمال بظلاله الثقيلة على إدارة الأزمة. المحافظون، الذين قادوا فترة البريكست وما تلاها، فشلوا في إبرام اتفاقات تجارية كبيرة، بينما حاول العمال عند وصولهم إلى السلطة تثبيت الاتفاق الاقتصادي مع الاتحاد الأوروبي. لكن كما يشير زهير، جاء هذا التحرك "بعد فوات الأوان"، إذ كانت الأزمة قد التهمت جانبًا كبيرًا من قدرة بريطانيا على المناورة.

إلى جانب ذلك، كثرت التعديلات الوزارية، وتبدّل الوزراء المعنيون بالاقتصاد والمالية بوتيرة أربكت المستثمرين وأظهرت غياب رؤية استراتيجية متماسكة.

المقارنة مع فرنسا وأوروبا: من أضعف حالاً؟

رغم هذه الصورة القاتمة، يرى زهير أن بريطانيا لا تزال تملك فرصًا للتعافي تفوق فرنسا، حتى وإن بقيت الأخيرة داخل الاتحاد الأوروبي. فبريطانيا تتمتع بقوانين اقتصادية أكثر مرونة وجاذبية للاستثمارات، وهو ما يمكن أن يساعدها إذا ما اتخذت قرارات سريعة وجريئة.

لكن الاتحاد الأوروبي بدوره يواجه تحديات مستقبلية، خاصة مع تزايد النفوذ الاقتصادي للصين والهند وروسيا. ويرى زهير أن الاقتصادات الكبرى في أوروبا قد تعاني في المدى القريب، خلال السنتين أو الثلاث المقبلة، غير أن المدى البعيد قد يشهد تحسنًا إذا ما اضطرت هذه الدول إلى اتخاذ قرارات جماعية لتعديل البيروقراطية الأوروبية والتحرك كوحدة اقتصادية موحدة.

أخبار ذات صلة

تحذيرات من أزمة طاقة محتملة في بريطانيا بحلول 2030
3.9 تريليون دولار دين عام ينهك بريطانيا ويبتلع اقتصادها

خيارات بريطانيا: أي طريق؟

المشهد البريطاني اليوم يقف أمام خيارات صعبة. فهناك قراران أساسيان كما يوضح زهير:

  1. إعادة النظر في العلاقة الاقتصادية مع الولايات المتحدة، والانفصال عن الاعتماد الكلي عليها، أو على الأقل بناء سياسة أكثر استقلالية.
  2. توقيع اتفاقيات وفق المصالح الأوروبيةوالبحث عن شراكات جديدة بعيدة عن الحسابات السياسية الضيقة.

هذه الخيارات ليست سهلة، لكنها قد تحدد مستقبل بريطانيا الاقتصادي لعقود قادمة.

هل يتكرر سيناريو 1976؟

المخاوف من العودة إلى أزمة مشابهة لعام 1976 حين لجأت بريطانيا إلى صندوق النقد الدولي باتت تتردد في الأوساط الاقتصادية. يومها، أجبرت الظروف لندن على طلب قرض ضخم لإنقاذ الجنيه والمالية العامة. واليوم، ومع تضخم الدين العام وتراجع الثقة، يخشى البعض من تكرار السيناريو نفسه، خصوصًا إذا فشلت الحكومة في احتواء الأزمة أو عجزت عن تقديم ميزانية مقنعة للأسواق.

بين الغرق والفرصة الأخيرة

الأزمة البريطانية الحالية ليست مجرد تعثر اقتصادي عابر، بل هي نتاج تراكم سياسات خاطئة ورهانات خاسرة منذ أكثر من عقد. من التقشف إلى البريكست، ومن الوعد الأميركي المجهض إلى الصدمات المتتالية، وجدت بريطانيا نفسها في قلب عاصفة اقتصادية وسياسية تهدد مكانتها العالمية.

لكن، وبرغم كل ذلك، فإن الفرصة لم تضِع بعد. فالقوانين المرنة والجاذبة للاستثمارات، ومكانة لندن المالية، يمكن أن تعطي بريطانيا فرصة للعودة إذا ما تحركت بسرعة وبقرارات جريئة. السؤال الذي يبقى مفتوحًا: هل ستتمكن لندن من إعادة بناء بوصلتها الاقتصادية، أم ستغرق سفينتها مجددًا في أمواج أزمة تذكّر بسبعينات القرن الماضي؟

فرنسا في عين العاصفة.. سقوط الحكومة يهز أوروبا ويحرج ماكرون