يرى المحلل الاقتصادي الأميركي تيموثي آش أن الاقتصاد الروسي أثبت أن لديه قدرة على التحمل والاستمرارية على مدار ثلاث سنوات ونصف من حرب واسعة النطاق في أوكرانيا وعقد من العقوبات الغربية، أكبر مما كان يتوقعه كثيرون.
وقال آش، هو زميل مشارك في برنامج روسيا وأوراسيا في معهد تشاتام هاوس البريطاني (المعروف رسمياً باسم المعهد الملكي للشؤون الدولية) في تقرير نشره المعهد، إنه انتشرت على نطاق واسع توقعات بانهيار الاقتصاد الروسي في عام 2022، في الوقت الذي فرض فيه الغرب في البداية عقوبات شاملة عقب الحرب الروسية ضد أوكرانيا واسعة النطاق.
لكن ذلك الانهيار لم يحدث... وأضاف آش،في تقرير نشره معهد تشاتام هاوس، أن الاقتصاد الروسي واصل أداءه وحقق حتى ازدهارا. وبينما عانى من انكماش حقيقي في إجمالي الناتج المحلي بنسبة 1.4 بالمئة في عام 2022، فإنه سجل نموا بقيمة حقيقية بأكثر من 4 بالمئة في العام على مدار العامين التاليين.
وتابع آش أن التفسيرات وراء قوة الاقتصاد الروسي عديدة ، ولكن عددا من العوامل المهمة اسهمت في ذلك.
أولها أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد قام منذ فترة طويلة بالتخطيط للحرب الشاملة والعقوبات التي من المرجح أن تنجم عن ذلك.
وفي الواقع، أنه منذ ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، طبقت روسيا سياسات مالية ونقدية أكثر صرامة مما ربما بدت مناسبة على ضوء ميزانيتها العمومية.
ومكّنت هذه السياسات روسيا من خفض ديونها وتوفير موارد مالية احتياطية - استعدادا لهذه الحرب.
وبحلول فبراير 2022، كان البنك المركزي الروسي قد جمع احتياطيات من النقد الأجنبي بلغت أكثر من 600 مليار دولار أميركي، مع أصول بحوالي 10 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي في صندوق الثروة الوطنية.
وتم الحفاظ على نسبة دين القطاع العام إلى الناتج المحلي الإجمالي عند أقل من 20 بالمئة، وسدد القطاع ديونه الخارجية.
وكانت سياسات روسيا الحصن الاقتصادية هذه تهدف إلى أن يكون الاقتصاد أقل اعتمادا على التمويل الاجنبي مما كان قبل عقد عندما يتم فرض عقوبات على البلاد.
وكانت روسيا تمتلك احتياطيات كبيرة من النقد الأجنبي، وحققت فوائض في الحساب الجاري.
وثانيا، كان هناك بطء في فرض العقوبات الغربية ، وكانت مليئة بالاستثناءات والتناقضات، مما مكن روسيا من الالتفاف عليها.
ووفقا لبيانات صندوق النقد الدولي، حققت روسيا فائضا في الحساب الجاري بلغ نحو 375 مليار دولار خلال الفترة منذ الحرب واسعة النطاق وهو ما يزيد بنحو 50 بالمئة مقارنة بالفترة السابقة على الأزمة.والأمر اللافت للنظر هو أن روسيا تمكنت من جمع حجم أكبر من عائدات النقد الأجنبي مما جمعته قبل الحرب الشاملة.
وثالثا، كانت العقوبات الثانوية ضعيفة جدا وغير فعالة.
وكانت النتيجة أن الكثير من الدول والشركات والبنوك والأفراد كانوا مستعدين لمساعدة روسيا على التحايل على العقوبات.
ورابعا، كانت روسيا بارعة في التحرك لحرب اقتصادية من خلال عمليات تحويل في الانتاج وايجاد بدائل لواردتها.
ولكن سوف يكون من الخطأ الإشارة إلى إن إعدادات سياسات روسيا الحصن الاقتصادية والحرب، والعقوبات كانت بدون ثمن على الاقتصاد الروسي.
لقد أدت إعدادات سياسات روسيا الحصن الاقتصادية إلى جعل الروس أكثر فقرا، بالإضافة إلى مقتل وإصابة مئات الآلاف.
وبالتطلع إلى المستقبل، سوف تكون التكلفة الاجتماعية لإعانات العجز والضمان الاجتماعي المرتفعة للمحاربين القدامى عبئا ثقيلا على الاقتصاد على المدى الطويل.
و مهما كان حجم الخسائر الاقتصادية، فإنها لم تكن كافية للتشجيع على حدوث تحول من جانب بوتين في سياساته، أو إحداث تحول حاسم في المشاعر المحلية ضد الحرب.
ولا يمكن التقليل من قوة الدعاية وسيطرة بوتين على وسائل الإعلام المحلية.
مع ذلك، بدأت الحواجز التي وضعها بوتين قبل الحرب في التأكل. وهناك أمور كثيرة تشير إلى أن التوقعات بشأن الاقتصاد الكلي الروسي أصبحت أكثر صعوبة.
ويرتفع التضخم باستمرار بأكثر من ضعف هدف التضخم الذي حدده البنك المركزي الروسي بنسبة 4 بالمئة منذ الأزمة كنتيجة لزيادة العقوبات وتكاليف الواردات وضعف الروبل.
ورد البنك المركزي الروسي برفع سعر الفائدة الرئيسي في أعقاب الحرب إلى 21 بالمئة، وهو الأعلى بين نظرائه في الأسواق الناشئة.
ويعاني الاقتصاد الحقيقي الآن، وتباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي إلى 1.1 بالمئة فقط على أساس سنوي في الربع الثاني من عام 2025، بعد أن كان قد سجل نموا بنسبة 1.4 بالمئة على أساس سنوي في الربع الأول، وهو أقل من مستوى ربع في العام السابق.
ويتم تعديل توقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للعام بأكمله بالخفض إلى أقل من 1 بالمئة لعام 2025، لكن التوقعات الخاصة بالتضخم لا تزال مرتفعة. وهذا يشير إلى أنه لا نهاية تلوح في الأفق للركود التضخمي الحالي.
ومع إعطاء الأولوية لاقتصاد الحرب، هناك الكثير مما يشير إلى أن قطاعات أخرى غير ذات أولوية تكافح تحت عبء تكاليف الفائدة المرتفعة والديون.
وتشير تقارير البنك المركزي الروسي إلى انخفاض ملحوظ بنسبة 40 بالمئة في فائض الحساب الجاري في النصف الأول من عام 2025.
ويمكن أن تزيد نقاط الضعف الآن. وذلك يشير إلى أن قيام الغرب بفرض عقوبات أشد قد يكون عاملا كافيا لدفع الاقتصاد نحو حافة الهاوية.
ويتعين على الغرب أن يبدأ بفرض نظام العقوبات الحالي بشكل أكثر صرامة، وفرض عقوبات ثانوية أكبر على الدول والشركات والأفراد الذين يساعدون روسيا.
وطرح مجلس الشيوخ الأميركي اقتراحا بفرض رسوم جمركية بنسبة 500 بالمئة على مستوردي الطاقة والسلع الروسية، ولكن هذا غير قابل للتطبيق من الناحية العملية، لأنه سوف يزعزع استقرار الأسواق العالمية.
مع ذلك، يمكن أن يكون فرض تعريفة جمركية شاملة بنسبة 10-20 بالمئة على الصادرات الروسية فعالا وقابلا للتطبيق.
وسوف تزيد فعاليته إذا ما تم تخصيص الأموال التي يتم تحصيلها للدفاع عن أوكرانيا.
وأخيرا، فإن الاستيلاء على أكثر من 300 مليار دولار من أصول البنك المركزي الروسي المجمدة تحت الولايات القضائية الغربية وتخصيصها للدفاع عن أوكرانيا سوف يرسل إشارة قوية إلى أنه سوف يكون هناك قليل من الضوء في نهاية النفق بالنسبة للاقتصاد الروسي.
واختتم آش تقريره بالقول إن كل هذه الإجراءات سوف ترفع مستوى المخاطر التي تشكل تهديدا للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي بالنسبة للكرملين، وتؤثر على حساباته عندما يدرس فوائد محادثات السلام بشأن أوكرانيا – أو مزيد من السنوات من الحرب.