يتحرك اليوان الصيني في مسار صاعد يعكس تفاعلات جديدة في الأسواق العالمية، ويعيد طرح أسئلة حول توازن القوى بين واشنطن وبكين، حيث يرتبط هذا الصعود برسائل سياسية واقتصادية تتجاوز حركة سعر الصرف.
ويأتي تحسن العملة الصينية في وقت يشهد فيه الدولار الأميركي ضغوطاً متزايدة، مدفوعة بتوقعات السياسات النقدية المقبلة في الولايات المتحدة، وتنامي المخاوف بشأن أعباء الدين العام. في المقابل، تحاول بكين أن تقدم صورة مختلفة، قائمة على متانة الأسس الاقتصادية وتوسيع نطاق شراكاتها التجارية.
وتكشف التطورات الأخيرة أن تحركات اليوان تمثل نتاجاً لتفاعل داخلي وخارجي يضع العملة الصينية في قلب المعادلة المالية الدولية، ويجعلها أداة يمكن أن تحمل أبعاداً اقتصادية وجيوسياسية في آن واحد.
- ارتفعت قيمة العملة الصينية إلى أعلى مستوى لها مقابل الدولار الأميركي منذ فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر من العام الماضي.
- ارتفع اليوان –الذي كان قد ضعف بشكل حاد مقابل الدولار في السنوات الأخيرة- بنسبة 2.3 بالمئة هذا العام إلى 7.14 يوان مقابل الدولار.
- يرى استراتيجيون أن ارتفاع قيمة اليوان قد يكون ذا أهمية كبيرة لمفاوضات بكين مع واشنطن بشأن اتفاقية تجارية، بحسب ما نقله تقرير لصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية.
- كانت إدارة ترامب قد وصفت الصين بـ"المتلاعبة بالعملة" خلال ولاية الرئيس الأميركي الأولى.
يقول رئيس قسم استراتيجية النقد الأجنبي والأسواق الناشئة في باركليز، ميتول كوتيشا: "إنها (الصين) تُرسل إشارة إلى الولايات المتحدة.. تريد بكين أن تُظهر أنها لن تُخفّض قيمة عملتها".
ويأتي هذا الارتفاع في الوقت الذي سجل فيه اليوان أداء أضعف من عملات مثل اليورو والين، والتي ارتفعت بنسبة 13.2 بالمئة و6.2 بالمئة على التوالي مقابل الدولار هذا العام.
ونقلت الصحيفة عن كبير الاقتصاديين في منطقة آسيا والمحيط الهادئ ورئيس أبحاث الاقتصاد الناشئ في غولدمان ساكس، أندرو تيلتون، قوله: "يبدو من المرجح للغاية أن المسؤولين الأميركيين ناقشوا هذه القضية وشجعوا الدول على السماح لعملاتها بالارتفاع".
أبرز العوامل
الكاتبة الصحافية الصينية، سعاد ياي شين هوا، تقول لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
- لم يأتِ هذا الارتفاع الذي يسجله اليوان من فراغ؛ إنما نتج عن تضافر عدة عوامل، من أبرزها ضعف الدولار، وصلابة الأسس الاقتصادية للصين، إضافة إلى تغيّر توقعات الأسواق. ويُعَدّ تراجع الدولار هو السبب الخارجي المباشر الأبرز وراء قوة اليوان.
- على الصعيد الدولي، لعبت توقعات خفض أسعار الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي دوراً رئيسياً في الضغط على الدولار، لا سيما بعد بيانات الوظائف الأميركية الأخيرة (..)
- هذا الواقع عزّز قناعة الأسواق بأن الفيدرالي قد يبدأ خفض الفائدة في سبتمبر، بنسبة ترجيح وصلت إلى نحو 90 بالمئة.
- مثل هذه التوقعات عادة ما تقلل من جاذبية الدولار، وهو ما انعكس فعلاً في هبوط مؤشره من مستوى 109 مطلع العام إلى حدود 97–98 نقطة، ليفسح المجال أمام صعود اليوان.
- كما أسهمت العوامل المالية والسياسية الأميركية في تقويض الثقة بالدولار. فقد تجاوز الدين الحكومي الأميركي حاجز 36 تريليون دولار، وهو ما يثقل كاهل المالية العامة بأعباء فوائد ضخمة.
وتضيف: "أما داخلياً؛ فقد وفرت الأسس الاقتصادية الصينية قاعدة صلبة لدعم قوة اليوان؛ ففي الأشهر السبعة الأولى من العام 2025، سجلت الصادرات الصينية نمواً بنسبة 6.1 بالمئة على الرغم من تعقيدات التجارة العالمية. وقد ساعد ارتفاع الصادرات إلى الاتحاد الأوروبي وأميركا اللاتينية وأفريقيا في تعويض تراجعها إلى السوق الأميركية، ما أظهر مرونة وتنافسية ملحوظة في تنويع الأسواق".
وإلى جانب ذلك، واصلت الصين مسيرة الابتكار والتنمية عالية الجودة، مما حافظ على استقرار الاقتصاد الوطني ودعم ثقة الأسواق باليوان.
كما أن تعافي أسواق رأس المال المحلية شكّل رافعة إضافية للعملة الصينية، إذ زاد إقبال رؤوس الأموال الأجنبية على الأصول المقومة باليوان. ولا يمكن إغفال دور سعر الصرف المرجعي الذي يقدمه البنك المركزي، حيث ارتفع بنسبة 0.64 بالمئة في أغسطس، ما بعث رسالة إيجابية إلى الأسواق وأسهم في تعزيز قوة العملة في الداخل والخارج، وفق الكاتبة الصينية.
وتختتم حديثها قائلة: بذلك، يتضح أن صعود اليوان هو نتاج مزدوج لعوامل خارجية تتمثل في تراجع الدولار، وعوامل داخلية نابعة من متانة الاقتصاد الصيني. وبالنظر إلى المستقبل، فإن بدء الفيدرالي الأميركي دورة خفض الفائدة، مع استمرار الأداء الاقتصادي الصيني المستقر والمتنامي، قد يضمن لليوان الحفاظ على قوته، ويمنح المستثمرين العالميين مزيداً من الثقة.
صناديق التحوط
وتكثف صناديق التحوط رهاناتها عبر عقود الخيارات، في إشارة إلى أن صعود اليوان مقابل الدولار لا يزال أمامه مجال للمزيد من المكاسب، بحسب تقرير لـ "بلومبيرغ" يشير إلى أن:
- الطلب على عقود الخيارات التي تحقق أرباحاً عند ارتفاع اليوان مقابل الدولار ارتفع، بحسب متداولين فضّلوا عدم الكشف عن هويتهم.
- تشير بيانات بورصة SGX Derivatives Exchange إلى أن المستثمرين يستهدفون مستويات مرتفعة لليوان إلى مستوى 7 يوانات للدولار أو أقوى بحلول نهاية العام، مدفوعين بتزايد الثقة في تقديم الصين دعماً سياسياً، إلى جانب تغيّر التوقعات بشأن أسعار الفائدة الأميركية.
ونقل التقرير عن الرئيس العالمي لقطاع خيارات العملات الأجنبية في بنك ستاندرد تشارترد في سنغافورة، سوراب تاندون، قوله: "لاحظنا زيادة في الطلب على رهانات انخفاض الدولار مقابل اليوان، خاصة من عملاء صناديق التحوط".
ويضيف: التقلّبات الضمنية للأزواج، خصوصاً في العقود الأقصر أجلاً، تراجعت نتيجة ضعف التقلّب الفعلي خلال الأشهر الماضية "وهذا ما يجعل شراء خيارات الهبوط صفقة جذّابة".
عدة أسباب
من جانبها، تقول خبيرة أسواق المال، حنان رمسيس، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن هناك عدة أسباب لتفوق اليوان الصيني أمام الدولار، خاصة بعد انتخاب دونالد ترامب سواء في ولايته الأولى أو الثانية؛ فمن المعروف أن ترامب يتبنى سياسة الحروب الاقتصادية عبر فرض الرسوم الجمركية، خصوصاً على الصين باعتبارها المنافس الأكبر للاقتصاد الأميركي، وهو ما يخلق حالة من عدم الاستقرار الاقتصادي انعكست سلباً على قوة الدولار أمام سلة العملات.
إلى جانب ذلك، يلعب البنك المركزي الصيني دوراً محورياً في دعم اليوان وتعزيز مكانته الاقتصادية على مستوى العالم، كما أن الصين لا تميز بين الدول في مسألة الشراكات الاستثمارية، فهي تستثمر في مختلف الأسواق (..) ما يزيد من حجم استثماراتها ويعزز الاعتماد على عملتها المحلية.
وتضيف: الضغوط المتكررة من الرئيس ترامب على مجلس الاحتياطي الفيدرالي لخفض أسعار الفائدة، رغم استمرار التضخم، أثرت سلباً على عوائد السندات وأذون الخزانة الأميركية، وهو ما دفع الصين – باعتبارها أحد أكبر المستثمرين فيها – إلى تقليص حيازاتها، وهو ما أضعف الدولار بشكل أكبر أيضاً.
وتستطرد: في الوقت نفسه، نشهد تركيز الصين على الاستثمار في الذهب، الأمر الذي يدعم اقتصادها ويعزز مكانتها المالية، وبالتالي يقوي من موقف عملتها. وإلى جانب ذلك، تتبنى الصين سياسات اقتصادية محفزة لتحويل القطاع العائلي إلى قطاع منتج، ما يجعل اقتصادها أكثر إنتاجية مقارنة بالعديد من الدول الأخرى.