تشهد أسواق المعادن العالمية حالة من الترقب الحذر في ظل تحركات جديدة للسياسة التجارية الأميركية، التي أعادت رسم ملامح مشهد النحاس بشكل غير مسبوق. هذه الخطوات، التي تأتي في إطار نهج حمائي أوسع، أثارت موجة من ردود الفعل بين مختلف القطاعات الصناعية والمستثمرين، وأعادت إلى الواجهة تساؤلات حول توازن سلاسل الإمداد العالمية وقدرة الأسواق على امتصاص الصدمات المفاجئة.

في خضم هذه التطورات، يتقاطع البعد الاقتصادي مع الحسابات الاستراتيجية، إذ ترتبط إجراءات الولايات المتحدة بمفاهيم الأمن القومي وحماية الصناعات الحيوية من الضغوط الخارجية. لكن هذه السياسات، رغم أهدافها المعلنة، تضع العديد من القطاعات أمام واقع أكثر تعقيدًا، وتفتح الباب أمام تداعيات أوسع على الأسعار العالمية ومراكز الإنتاج والتجارة في المعادن الأساسية.

في هذا السياق، يشير تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال":

  • أسعار النحاس في الولايات المتحدة ارتفعت إلى مستويات قياسية وأعلى بكثير من الأسعار العالمية هذا الشهر بعد أن قال ترامب إنه سيفرض تعريفات بنسبة 50 بالمئة على المعدن، والذي يستخدم في صناعة الإلكترونيات والسيارات وفي البناء، حيث يستخدم لنقل المياه في الأنابيب والكهرباء في الأسلاك.
  • وسارع التجار والشركات إلى نقل النحاس عبر الحدود قبل فرض التعريفات الجمركية، وامتلأت مستودعات المعادن في بالتيمور ونيو أورليانز وديترويت ومراكز التخزين الأخرى.
  • وفي يوم الأربعاء، وقبل تاريخ سريان القانون في الأول من أغسطس، تراجع البيت الأبيض عن فرض تعريفة على النحاس في أشكاله الأقل معالجة، مثل التركيز والكاثودات، وكذلك الخردة، وفرض بدلا من ذلك الضريبة على منتجات النحاس، مثل الأسلاك والأنابيب والألواح.

يشير التقرير إلى أن ضريبة الخمسين بالمئة ستطبق أيضًا على محتوى النحاس في منتجات أخرى، مثل تجهيزات الأنابيب والأسلاك الكهربائية ومكونات أخرى، ولكن ليس على القيمة الكاملة للمنتج، وفقًا لبيان صحافي صادر عن البيت الأبيض. ولن تُضاف تعريفة النحاس إلى الرسوم المفروضة على السيارات.

ستحمي التعريفة الجمركية على النحاس الشركات المصنعة المحلية للإلكترونيات وتجهيزات السباكة وغيرها من المنتجات، ولكن ليس شركات التعدين أو المصاهر أو غيرها.

أخبار ذات صلة

ترامب يفرض رسوما جمركية جديدة على عشرات الدول
هل يبدو هدف النمو 5% في متناول يد الحكومة الصينية؟

مخاوف الأسواق

يقول الرئيس التنفيذي لمركز كوروم للدراسات، طارق الرفاعي، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب اقترح في البداية فرض تعريفة جمركية بنسبة 50 بالمئة على جميع واردات النحاس، بما في ذلك المعادن المكررة. غير أنه في 30 يوليو تم استثناء مدخلات النحاس – مثل الخامات والمركزات والكاثودات والخردة – من هذه التعريفة.

وبذلك أصبحت التعريفة تسري، اعتبارًا من 1 أغسطس 2025، فقط على منتجات النحاس شبه المصنعة والمصنعة مثل الأنابيب والأسلاك والوصلات وغيرها. هذه الخطوة أثارت ردود فعل متفاوتة بين القطاعات المختلفة في السوق.

بالنسبة لقطاع منتجي النحاس والتعدين، يضيف: إن التأثير محدود، حيث لن يستفيد عمال المناجم والمصافي الأميركيون الذين كانوا يطمحون إلى حماية صناعتهم المحلية من الإعفاءات التي مُنحت لمدخلات الخام. في المقابل، يبدو أن المصدّرين الأجانب – وخصوصاً الموردين التشيليين والبيروفيين – قد يجنون بعض الفوائد، إذ لن تتأثر صادراتهم من النحاس الخام، بل قد تتوسع فرص وصولهم إلى السوق الأميركية.

رسوم ترامب تضرب مجدداً في أسواق المعادن

أما في قطاع التصنيع والمستخدمين الصناعيين، فالوضع يبدو أكثر تعقيدًا؛ إذ ستُضطر الشركات التي تعتمد على النحاس شبه المصنع في صناعات الكهرباء والبناء والتدفئة والتهوية والتكييف إلى مواجهة تعريفة جمركية مرتفعة بنسبة 50 بالمئة، ما قد يؤدي إلى زيادة أسعار المكونات الأساسية لهذه الصناعات.

هذا الضغط على سلاسل الإمداد الصناعية -بحسب الرفاعي- سينعكس بدوره على المستهلكين النهائيين وقطاع البناء. فمع احتمال ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية والإسكان – بما في ذلك الأسلاك، والسباكة، والأجهزة المنزلية – يُتوقع أن يتحمل قطاع البناء والتشييد العبء الأكبر من هذه الزيادات في التكاليف.

كما لم يَسلم قطاع تجارة النحاس من التأثير، حيث يعاني التجار من ارتفاع أسعار النحاس المُكرر المُخزّن، بالتزامن مع انخفاض في مخزونات بورصة لندن للمعادن، مما قد يؤدي إلى إعادة تصدير بعض الكميات المتوفرة ويخلق ضغوطًا على الأسعار العالمية.

وعلى المستوى الاستراتيجي الأوسع، يستطرد: الإدارة الأميركية تقول إن هذه التعريفة الجمركية تأتي كرد فعل على المخاطر المرتبطة بالاعتماد على النحاس الأجنبي، خاصة في ما يتعلق بالدفاع الوطني والبنية التحتية الحيوية. لكن رغم هذا التبرير، تبقى قدرة الولايات المتحدة على تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال تكرير النحاس محدودة، بسبب نقص البنية التحتية المتاحة، وهو ما يستدعي سنوات لبنائها. من بين المشاريع التي تهدف إلى تقليص هذه الفجوة، مشروع إيفانهو في أريزونا، والمخطط له أن يبدأ الإنتاج بحلول عام 2028.

وبينما يُتوقع إجراء إعادة تقييم لهذه السياسات في منتصف عام 2026، تُثار تساؤلات بشأن احتمال فرض تعريفات تدريجية على النحاس المُكرر – 15 بالمئة في عام 2027، و30 بالمئة في عام 2028 – وهو ما سيؤدي إلى تفاقم التكاليف على سلاسل التوريد المعتمدة على هذا المعدن الحيوي.

ويستطرد: وعلى الرغم من أن هيكل التعريفات المُعدّل أدى في الوقت الراهن إلى انخفاض حاد في الأسعار، إلا أنه يُحمّل مصنّعي ومستخدمي منتجات النحاس النهائية أعباء مالية جديدة. كما أن منتجي النحاس لا يجنون فائدة حقيقية من الإعفاءات على المدخلات الخام، ما يترك القطاعات الصناعية في مواجهة تكاليف أعلى في المراحل الأولى من الإنتاج، مع تأثيرات لا تزال غير واضحة على سلاسل التوريد في الأجل الطويل.

%41 ارتفاع أسعار النحاس منذ بداية 2025

صدمة الأسواق

ويشير تقرير لشبكة "سي إن بي سي" الأميركية إلى أنه بينما كان التجار يستغلون تقلبات الأسعار، كان أحد أسباب إعادة توجيه إمدادات النحاس الضخمة إلى الولايات المتحدة هو أن البلاد ستحتاج إلى عقود حتى تتمكن من زيادة إنتاجها المحلي من المعدن بما يكفي لتلبية الطلب.

تستورد الولايات المتحدة حاليًا حوالي نصف احتياجاتها من النحاس، ومن بين كبار المصدرين تشيلي وكندا وبيرو والمكسيك.

أكد المحللون في دويتشه بنك على ”الصدمة الهائلة التي تعرضت لها السوق” هذا الأسبوع.. "ومن الناحية الأساسية، فإن هذا لا يغير توازن العرض والطلب على النحاس (ويمكن القول إنه يحسنه بسبب انخفاض مخاطر تدمير الطلب)، ولكن من المرجح أن يضع بورصة كومكس تحت ضغط شديد"، كما كتبوا.

كما أنه من المرجح أن يستمر ضغط انخفاض الأسعار على بورصة لندن للمعادن، وإن كان بوتيرة أقل حدة، في أعقاب التراكم الهائل للمخزونات في الولايات المتحدة حتى الآن هذا العام. وأضافوا أن هذا الفائض "قد يؤدي إلى عودة شحنات كبيرة من الولايات المتحدة إلى السوق العالمية"، حيث أصبح العرض محدودًا.

شركة XM تتوقع ارتفاع أسعار النحاس خلال الفترة المقبلة

مفاجأة ترامب 

أستاذة الاقتصاد والطاقة، الدكتورة وفاء علي، تقول لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":

  • شهدت أسواق النحاس ليلة صاخبة، بل يمكن وصفها بالقاسية، بعدما فجّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب مفاجأته بإعلانه تفاصيل التعريفات الجمركية الجديدة على النحاس، وهي الخطوة التي كان قد لمح إليها منذ أكثر من أسبوع.
  • هذه الرسوم أشعلت الأسواق وأربكت الحسابات، ليقع التأثير فورًا على الأسعار.
  • وبينما تلقّت الأسواق صدمة هذا التغيير المفاجئ، جاءت الرسوم التي فرضها ترامب بنسبة 50 بالمئة على المنتجات شبه المصنعة من النحاس، مثل الأنابيب والأسلاك، لتقلب موازين المستثمرين وتدفع الأسعار المحلية إلى الهبوط الحاد، متأثرة أيضًا بإلغاء علاوة المخاطر المرتبطة بمؤشر بورصة لندن للمعادن.
  • الرئيس ترامب برر هذه الخطوة بأنها تهدف إلى حماية الأمن القومي الأميركي، معتبرًا أن التعريفات توفر مظلة داعمة لشركات النحاس المحلية، ومن المقرر أن تدخل حيز التنفيذ مطلع أغسطس.
  • وفي الوقت الذي يؤكد فيه البيت الأبيض أهمية هذه السياسات لصناعة النحاس الأميركية، يرى كثير من المراقبين أن هذه الإجراءات قد تزيد من حدة الارتباك في أسواق المعادن.

وتضيف: لا يخفى على أحد أهمية النحاس كعنصر حيوي في عدد من الصناعات الأساسية، من بينها السيارات، والإلكترونيات، ومكونات الطاقة، ما يجعل أي اضطراب في سلاسل التوريد الخاصة به ذا تأثير مباشر على الاقتصاد الصناعي ككل. وتُعد تشيلي من أبرز مورّدي النحاس إلى الولايات المتحدة.

وبينما يسوّق ترامب تعريفاته على أنها خطوة لإعادة تموضع الصناعة الأميركية، يرى مراقبون أن هذه السياسة قد تضع المستثمرين أمام واقع أكثر تعقيدًا، خاصة في ظل أجندة اقتصادية تحمل ملامح من الحمائية الشرسة، وتفرض تحديات على الصناعات الحساسة التي يُعد النحاس مكونًا لا غنى عنه فيها. ويُخشى أن تؤدي هذه الإجراءات إلى تعميق حالة عدم الاستقرار الاقتصادي، في وقت تحتاج فيه الأسواق العالمية إلى استقرار أكبر، لا إلى مزيد من التقلبات، بحسب خبيرة الاقتصاد والطاقة.

رسوم ترامب تربك أسواق المعادن